تمثّلات الأنا والآخر في الكتابة النسائية العربية " الرواية نموذجا "

طباعة

تمثّلات الأنا والآخر في الكتابة النسائية العربية
الرواية نموذجا

د زهور كرام
روائية وناقدة وجامعية - المغرب

1/  ملاحظات أولية: .
 
تعد هذه المداخلة استمرارا في التفكير في أجرأة  مصطلح "الأدب النسائي" نصيا، والذي نرمي من خلاله إلى التأمل في الدلالات التي تنتجها الكاتبة حول المفاهيم المتداولة ثقافيا وتاريخيا واجتماعيا. وهو تأمل نقدي يركز- كما وضحنا في كتابنا التنظيري للمصطلح " السرد النسائي..."  على الكتابة النسائية باعتبارها إنتاجا مختلفا لدلالات المفاهيم المألوفة،  وذلك بموجب تحولات مواقع المرأة ضمن الخطاب الرمزي، من موقع المنظور إليه- المفعول به ( الموضوع ) إلى موقع الذات – المنتجة. ولعله طموح نقدي – معرفي يسعى إلى تجديد الرؤية للمفاهيم من أجل إغناء التفكير حول شرعية هذا المصطلح.  
تعد الأنا والآخر من أهم الثنائيات التي اشتغل عليها الفكر في مسار الحضارات، وهي من الثنائيات التي تعد محطة أساسية، عبرها تتمظهر أشكال الوعي وأنماطه بالنسبة للحضارات والأفراد، نظرا لكونها تحدد مستوى الوعي وطبيعته وشكله، وهو يقرأ/ ينتج معرفة حول ذاته من جهة ثم حول الآخر.

 
 إذا كانت هذه الثنائية قد اشتغلت بحدة في الفكر العربي على الخصوص إبان طرح سؤال النهضة، من موقع اكتشاف العرب لأزمة التخلف مع الاحتكاك بالغرب الأوروبي( فرنسا على الخصوص)، فإن الكاتبة العربية قد أنتجت خطابات، حاولت من خلالها أن تقترح مقاربات لهذه الثنائية من وجهة نظرها. اتخذت بعض هذه الخطابات شكل مقالات ودراسات( مقالة سارة نوفل حول التعامل مع الآخر من خلال موضوع الموضة)، والبعض الآخر جاء بصيغة الإبداع السردي كما وجدنا في رواية عفيفة كرم " بديعة وفؤاد"( 1906) من خلال موضوع الهجرة إلى أمريكا. 
عندما نتأمل هذه الكتابات التي ارتبطت بمرحلة سؤال النهضة، نسجل مجموعة من الملاحظات:
-    مساهمة الكاتبة العربية في تناول هذه الثنائية .
-    طريقة تناول هذه الثنائية في كتابة المرأة العربية( حسب النماذج المشار إليها)  كانت بعيدة – إلى حد ما – عن الانفعالية، أو اتخاذ موقف عداء من الآخر، والإعلاء من شأن الأنا بشكل عاطفي.
 يحضر الآخر باعتباره ذاتا أخرى، لها ما يميزها ويمنحها الشرعية، غير أنها ذات لا يجب أن تعيق الاعتراف والتواصل مع الذات العربية. هكذا وجدنا الكاتبة االسورية " سارة نوفل"  في مقالتها الواردة في انطولوجية الأديبة زينب فواز العاملي، تعتبر أن الموضة القادمة من الغرب مسألة مستحبة، وبإمكان المرأة العربية التطلع إليها، ولكن لا يجب أن يشغلنا الانبهار بها، عما يمكن أن تسببه من أضرار صحية للمرأة العربية، ولهذا فهي تناقش المسألة علميا وطبيا. وفي رواية عفيفة كرم" بديعة وفؤاد" تحضر أمريكا فضاء الهجرة العربية الأولى خاصة بالنسبة لأهل الشام في القرن 19 حلم الكثيرين ،  غير أن الرواية لا تقدم لنا أمريكا باعتبارها الفردوس، على العكس يركز السرد بؤره ومنطقه على الإكراهات والصعوبات التي واجهتها الشخصيات المهاجرة والتي ستدفعها إلى إعادة النظر في الهجرة إلى أمريكا،  بلد المال والحرية. إذ، اكتشفت الشخصية "لوسيا" أن الحصول على المال يتطلب عملا جسيما ويُحول الإنسان إلى دابة تحمل أثقالا. تقول:
"آه يا بديعة، إذا كان السوريون يتعذبون في أمريكا ويعيشون كهذه المعيشة بسفرهم فإنني لا أكون كسبتُ شيئا وأكون انتقلت من "المقلى إلى النار" بل أفضل البقاء في وطني على هذه الحالة من أن أكون فيها في بلاد الغربة" (ص. 2121-122).
تلك بعض الملاحظات على حضور صوت المرأة العربية منذ نهاية القرن 19 في محاورة هذه الثنائية بموقف الذات غير المستلبة.
عندما نتأمل تجربة الكاتبات العربيات في التجربة الحديثة، نجد البعض منهن تناول المسألة في علاقة مع الحكي عن الاستعمار كما نجد عند الكاتبة المغربية "ليلى أبو زيد" في معظم كتاباتها سواء الروائية أو القصصية ( عام الفيل، رجوع إلى الطفولة...)، إذ عبرت كتابتها عن الموقف من المستعمر الفرنسي. ومثلما وجدناه أيضا لدى مجموعة من الكاتبات المغاربيات بالتعبير الفرنسي، ولكن برؤية مغايرة للآخر الفرنسي. ونلاحظ أن معظم الكاتبات العربيات اللواتي طرحن الآخر في كتاباتهن السردية على الخصوص( رواية – قصة قصيرة) معظمهن يعشن في الغربة والمنفى ( هيفاء زنكنة، سميرة المانع، حميدة نعنع وأخريات..) وذلك بحكم فضاء الإقامة الذي تحول إلى فضاء للحكي.
غير أن أغلبية الكاتبات العربيات انخرطن في أسئلة قديمة جديدة برؤية حديثة، وهي الكتابة عن الذات النسائية من خلال ثنائية المرأة – الرجل، أو ثنائية المرأة – المجتمع.حيث أنتجت كتابات النساء ثنائيات سياقية ذات علاقة بالوعي الحقوقي والقانوني بوضعية المرأة. 
 مع ذلك، نلتقي بعينة من النصوص الروائية النسائية التي شخصت العلاقة بين الأنا والآخر في التجربة العربية، وأنتجت مجموعة من التمثلات حولها، وبرؤى مختلفة، نمثل لهذه النماذج بنموذجين: "مراتيج"( 1985) للروائية التونسية "عروسية  نالوتي" و"مسك الغزال" (1977) للروائية اللبنانية " حنان الشيخ" :

2/  الآخر- الفرنسي وتمثّلاته في الوعي الروائي في "مراتيج"

" لقد فشلت معهم فشلا ذريعا، ومن فشلي قطعت تذكرة سفر إلى باريس أبحث فيها عن مفاتيح الإعجاز التي تفتح الأذهان الموصدة بمزاليج من الداخل. مازلت أذكر عندما امتطي الباخرة، كنت يائسا ومنهزما ومؤمنا بهزيمتي" ( ص 9).
يكثف هذا المقطع السردي الذي ينتمي إلى الشخصية- المختار  ، دواعي السفر إلى الآخر/ فرنسا، وأسبابه، كما يحدد هذا المقطع الهدف من السفر.
يقرر المختار الهجرة بعد أن أعياه البحث عن سبل اختراق الذهنيات، ودعوتها إلى التفكير المشترك حول وضعيات عامة تخص البلد، وحول العدالة الاجتماعية، وكل ما يصون كرامة الإنسان، غير أن المختار كان يتعب في اختراق هذه العقول التي لم تكن تجاريه في تفكيره، يقول : " .. أحدثهم عن العدالة الاجتماعية، ومناقب العدالة الاجتماعية وعن مرحلة تتساوى فيها كل الحظوظ ويختفي فيها شبح الفقر والمذلة. وكانوا ينصتون إليّ، ولا يقاطعونني. وأنتظر منهم استفسارا أو ردّ فعل يجعلني أختبر مفعول كلامي فيهم، لكنهم يواصلون تخليط الأوراق وتوزيعها وينتظرون في صمت لحظة " التشكيب" وكسب النقاط"(ص9). يشخص المختار في هذا الملفوظ أزمة التواصل مع المحيط الذي لا يشاركه في مطالبه، ولا ينخرط معه في نفس الهم من أجل تحقيق عدالة اجتماعية تكون تعويضا عن الميز الاجتماعي والطبقي، من هذا اللا تواصل مع المحيط تنشأ أزمة الذات الطامحة إلى التغيير، وهي أزمة ستؤدي بالمختار إلى البحث عن فضاء آخر عبره يفهم ما الذي يحدث في الأذهان حتى لا يحصل الوصال المفترض، ولا يتحقق التواصل الاجتماعي من أجل البلد.
لكن هل حققت فرنسا/ الآخر الأجنبي هدف المختار والجيل الذي ينتمي إليه، وهل وضمنت له وعيا جديدا يجعله يدرك الذهنية التونسية، ويؤهله لكي يتجاوزها؟.
إن أهم عنصر يحدد لنا طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر في مراتيج ، ليست هي الأحداث وتطورها في باريس، وإنما طبيعة السرد وبنائه، تشخص لنا طبيعة هذه العلاقة وحدود الوعي بها.
2-أ : البناء السردي حالة تشخيصية للثنائية
 يسرد نص " مراتيج" مجموعة من الساردين الأساسيين  ( المختار، جودة، الهادي)، إلى جانب ساردين آخرين لا يعتبرون ثانويين، ولكن علاقتهم بالمجال السردي تتم عن طريق استحضار ملفوظاتهم  زمن التذكر ( الجدة ويوسف شعبان). غير أن وضعية كل الساردين تظل محكومة بسارد بضمير الغائب والذي يتصرف في تدبير الحكاية، يفتتح لها بمشهد يلقي بالمختار في دوامة الكوابيس، ويوزع الأدوار بين الساردين، ويتدخل في خطاباتهم ليس من خلال الأحداث المباشرة، وإنما عبر التصريف السردي. مما يجعل الحكاية تتخذ بعدا أفقيا خطيا ، حتى وإن عرف تعدد الساردين.
يشكل هذا الحضور السردي المهيمن ، إلى جانب هيمنة زمن التذكر( استحضار الحكايات والأساطير...) عاملان يكسران رغبة الانخراط المنشود في فضاء باريس. فعلى الرغم من أن باريس تشكل زمن الأحداث، وتحركها في علاقة مع إيقاع حياة الشخصيات  الرئيسية ( المختار وجودة والهادي) وعبر طبيعة العلاقة بين الشخصيات( صداقة( المختار/الهادي)، حب ( جودة/ المختار) تنافر (جودة/ الهادي)، إلى جانب مشروع التأطير السياسي الذي يتخلل تجمعات الطلبة التونسيين بالجامعة، فإن الفضاء الخارجي ( فضاء التذكر) يظل هو المهيمن، والمتحكم في التفكير والتحليل. وهذا ما انعكس على غلبة زمن الاسترجاع على مستوى بنية السرد من خلال الحضور القوي لصور الطفولة وحكايات الجدة والأساطير والخرافات، والتعاقدات الاجتماعية في البلد.        
  عنصران أساسيان يشتغلان بقوة في جعل السرد يتخذ من فضاء التذكر فضاء مميزا للحكي وهما الجدة، والصديق  يوسف شعبان:
تحضر الجدة باعتبارها حاكية الذاكرة في زمن الطفولة، ومعها تحضر الطفولة زمنا ممتلئا بالأساطير والحكايات والخرافات التي اكتشف المختار أنه لم يتمكن بعد من التخلص منها، ولم تتمكن باريس الأنوار والإيقاع السريع في التشطيب على تلك الحكايات باعتبارها مفسرة للعالم والذات و معنى وجود الأشياء. ويحضر يوسف شعبان صديق الطفولة باعتباره ضمير المخاطب الذي يحرك السرد ، ويخلق حوارا ضمنيا بين المختار وذاته. وفي استحضاره استحضار للحكمة التي سيدرك طبيعتها المختار وهو بعيد عن صديقه، تلك الحكمة التي جاء إلى باريس لكي يبحث عنها، فإذا به ينتبه إلى أن صديق الطفولة يملكها وهو في مكانه وبلدته يقول " يوسف شعبان ياصديق طفولتي وشبابي ياصنوي ي أخي. قل لي من أين تأتيك الحكمة؟ وأي جنّي يزوّدك بالخبرة وأنت القروي، الذي لم يبرح الجزيرة"( ص 41 ).
هكذا تبدو باريس – سرديا_ باهتة على مستوى تفعيل ذاكرة المختار أمام هجمة فضاءات  الطفولة والحكايات الأولى، وغريبة" " فبدا له المكان غريبا رغم عشرته الطويلة له"(ص 24).  وهو وضع سيدفع بالمختار إلى التساؤل عن حقيقة هذا الآخر  الذي لم يمكنه من الإجابة المعقولة لأزمة الخلل في التواصل مع المحيط من أجل مشروع التغيير، لم يقدم له الآخر جوابا شافيا حول السؤال الذي من أجله امتطى الباخرة وقرر المجيء إلى باريس لعله يدرك خلل الأذهان التي لا تتفاعل مع الطموح إلى التغيير في بلده، يقول: " ما جدوى هذا المقام في قلب المدن المزدهرة؟وهذا الجري واللهاط من أجل ماذا ولمن؟"(ص47). 
لقد انبثق هذا الوعي بالآخر عبر تقنية الحوار الداخلي التي هيمنت بدورها على مستوى بنية السرد في " مراتيج"، وهو حوار جعل ذات المختار تنشطر إلى ذاتين تناقشان جدوى الهجرة إلى الآخر للبحث عن الجواب، وتبرير الهجرة باعتبارها لم تكن هروبا من مواجهة واقع، بقدر ما كانت دافعا لتحقيق فهم أكبر، مما يدل على أن أصوات الماضي ظلت تلاحق المختار، وتسائله عن شرعية هجرته إلى الآخر. " جئت يا مختار باريس... لا لم تكن تنوي الانسحاب بل جئت من أجل أن تحقق رغبتك في الفهم أكثر، جئت تبحث عن الهواء لتطلق العنان لصيحاتك، جئت لكي تكبر."(ص49).
بل إنه  يعترف لصديقه- سرديا- يوسف بأنه لا يملك بطولة تحتم عليه تدبر شأن المحيط، بل أكثر من هذا إنه يطلب الإغاثة من يوسف الذي لم يبارح الجزيرة، ولم يسافر خارج البلد، ولم يفني حياته في كتاب ليصل إلى الحكمة،" أغثني يا يوسف ! ولا تضحك منّي ، كل ما بعثت ل كبه في رسائلي زائف ومغشوش... مغشوش إلى حد الخجل ... فلا حقيقة أملكها ولا بطولة واحدة حقّقتها .. إنّي كنت أتشفّى منك وأثأر لنفسي المهزومة أمامك..." ( ص 40 ).
" لو كان السر هنا لعثرت عليه في تسكعاتي الليلية بين صفحاتها والفقرات، أو لضبطتها في تلاواتي الصبحية الصاحية. وحتى أن لم أعثر أنا على الجواب..كان من الحتم أن يجده غيري من رفاق الدرس والطريقة."(ص8).
لم تتمكن باريس من خلق وعي جديد بما يحدث بالبلد، وأبانت عن فشلها في خلق التواصل مع البلد ولهذا، يعترف  المختار بحالة العجز التي يعيشها."  واليوم يعجزنا ما يدور في تلك الرقعة الحبيبة من الأرض ! أي عمى أصابنا وتركنا لا نرى شيئا ونحن نجوب شوارع باريس فننحت لها وجها جديدا ؟ كيف يباغتنا الأهل بهذا الشكل؟ أيثأرون لأنفسهم؟ وحدهم؟ هكذا بدون تخطيط؟ ثم من علمهم ذلك؟ ونحن هنا ماذا نفعل؟"( ص 9 ).بل حتى على المستوى العاطفي فشل المختار - وهو في باريس الحرية - في  التعبير عن حبه لجودة التي ظل يتعامل معها بكثير من الغموض، وقليل من الاقتراب على الرغم من إحساسه اتجاهها بمشاعر خاصة" كان يحدث في غالب الأحيان أن أحس بضيق أجهل سببه وأنا إلى جانبك، لكنني الآن أعرف أنني كنت أشتهيك حتى الإغماء ولكن صممي وتراكمات الكلس على صدري كانت تقف حيال رغبتي المبهمة آنذاك."(ص61). يتحرك وعي المختار اتجاه بلده وحبيبته بالتزامن مع استحضار حكايات جدته التي يجد فيها بعض الشروحات والتفسيرات لما يحدث له.
إن ما يحدث لوعي المختار هو هذا التجاذب بين انشداده إلى الذاكرة التي اكتشف ثقلها وهو يحاول التخلص منها، وبين تساؤله حول مشروعية بقائه في باريس بعد أن اكتشف أن هذا الفضاء ( باريس) لا يقدم له وعيا بواسطته يستطيع إدراك ما يحدث ببلده.
لقد انتقل الاصطدام الذي انفتح به النص بين الذات والآخر، إلى اصطدام بين الذات وذاكرتها، أنتج هذا شكلا معينا من الحوار، صحيح جاء الحوار ضمنيا وداخليا عبر الذات الواحدة، غير أنه حوار جعل الذات تعي حجم الذاكرة، " كان كلام يوسف مريحا ومعقولا وكان بودي أن أومن به ...لكنّ رواية جدتي سبقت رواية يوسف شعبان واستقرت ومدّت فيّ عروقها فلا أستطيع أن أقتلعها دون أن أحدث شرخا يظل ينزف في ذاكرتي، يا لهذه الذاكرة المشدوهة، تدور كالرأس المخلوع في كل اتجاه وتضيّع فيّ حمّى الدوران أدراجها وتتلف مفاتيحها وأخزانها وتروح تنسى، تنسى لتنساني أنا أيضا وتسقطني من حسابها."(ص67).
غير أن العودة إلى الذات لمحاورتها، ومواجهتها سيخفف الثقل، وينتج جملة ينتهي بها السرد في " مراتيج " وهو يحقق أفقا للذات  عبر فتح نافذة جديدة ،ونهار جديد بدأ  يشرق ، بعد أن واجه المختار ذاته/ ذاكرته: " ثم طوقها بذراعه، وأردف يقول وقد استعاد لهجته الحازمة. " لا  وقت لكي ننام الآن، فالنهار على وشك الطلوع"(ص77).
 
   3-     الآخر الأمريكي وتمثّلاته في "مسك الغزال" لحنان الشيخ
يتشكل النظام السردي في رواية " مسك الغزال" من أربعة فصول سردية يتناوب على حكيها أربع ساردات( سهى، نور، سوزان، تمر)، تربط بينهن علاقات  تتباين فيما بينها، حسب موقع كل ساردة على حدة ضمن الفضاء العام للحكاية. غير أن المشترك بينهن يتمثل في سؤال العلاقة بينهن من جهة وبين الصحراء العربية – الفضاء/ الموضوع.إلا أن طبيعة تشخيص هذا المشترك أنتج اختلافا في الرؤية لدى كل ساردة، مما جعل الرواية تعرف تعددا في أنماط الوعي.
تنقلنا الساردة – سوزان الأمريكية،  بتشخيصها لحكاية السؤال المشترك انطلاقا من موقعها، إلى تحويل الحكاية العامة في مسك الغزال، إلى حكاية اصطدام بين شكلين من الوعي عبر علاقة سوزان  بالرجل العربي ( معاذ) المتزوج من فاطمة، والتي تعلم بنوعية علاقة زوجها مع الأمريكية، غير أنها لا تناقش الأمر، ولا تحتج، وإنما تعيش وضعا مهادنا على اعتبار أن ذلك يدخل في حقوق زوجها – الرجل الذي يملك الحق في اتخاذ العشيقة.
لقد وجدت الأمريكية في الصحراء العربية مساحة كبيرة للتحرك في بيئة  تفتح الأحضان للمرأة الأجنبية، وتغلق الفضاءات أمام المرأة العربية.إنه وضع سوسيوثقافي جعل سوزان الأمريكية تشعر بالتميز والتفرد ، إنها "مارلين مونرو الصحراء"( ص 141). ولهذا ، كان استمرار سوزان وتواصلها مع الفضاء الصحراوي يتولد من هذه القيمة المفتقدة في بلدها ( أمريكا). غير أن هذه الوضعية ستختلف بمجرد ما تتفجر تناقضات الرجل العربي الذي سيربكه تحرر سوزان الجنسي، تقول سوزان : " قال إن البارحة خاف مني. وشعر بالقرف، تهت أتذكر البارحة، وما وجدت سببا، هل لأني اشتريت حلية  أخرى، هل لأني قلت إني أفضل حياة الصحراء على هنا، وجدتني أسأله بعصبية، إذ فضولي لألم بالذنب الذي اقترفته كان قويا " لماذا " ! . قال إني أتصرف على هواي كالرجل" ( ص 161 ). ولهذا السبب  اعتقد معاذ أن سوزان لم تنجب منه أطفالا لأنها تتصرف مثل الرجل.
لم تناقش سوزان الأمريكية وعي الرجل العربي – معاذ، ولم  تحاوره في قوله، إنما تقبلته  لسذاجته وتخلفه، لأن بقاءها  كتميز وتفرد  واستثناء، في غياب المرأة العربية وعيا ناضجا وحضورا إيجابيا، يتطلب بقاء الرجل سذاجة وتخلفا. حين يعي الرجل العربي  تخلفه، تتراجع نظرته للمرأة الأجنبية( الآخر ). ولهذا، فإن سوزان حاولت تبرير عدم  الإنجاب  بقولها: " ووجدتني أضحك وأنا أقول، إنه عقب ولادتي لجيمس أجريت عملية سددت بها الأنابيب" ( ص 163) . وهي إجابة كانت ستختلف لو صدر الخطاب نفسه عن زوجها الأمريكي  ، تقول سوزان: " أحتمي بسذاجته وبجهله وتساءلت لماذا أنا لست متضايقة من كلامه، أو أني لا آخذ كلامه على محمل الجد ، وتهت أفكر لو أن ديفيد فكر بي هكذا، ما ذا سيكون رد فعلي، ووجدتني أقبض كفي كمن يود أن يسدد لكمة. لكني أنظر إلى معاذ وأبتسم. صدقه وعفويته يأسرانني، ويضعانني  في مرتبة مولين مونرو"( ص 163 ). إنها حريصة   ألا تناقش وعيه حول أحقية المرأة باعتبارها إنسانا في المتعة والرغبة إلى جانب الإنجاب،  لأنها غير معنية بسؤال تطور وعيه،  فهي لا تعمل على تغيير شروط وعيه، قد تساعده على تغيير شروطه المادية العصرية ( استيراد المطبخ الأمريكي مثلا ) ، ولكنها لا تحاوره في المفاهيم التي يحملها حول المرأة والأنثى والرجل والفحولة والجنس.  

3-  قراءة تركيبية لمنطق هذه التمثّلات:
عندما نتأمل علاقة الأنا والآخر في النموذجين الروائيين، مع استحضار نماذج أخرى تؤثث خلفيتنا المقروئية للنص النسائي العربي، يمكن تعيين مواصفات هذه العلاقة في الملاحظات التالية:
3-1 إن الدلالة التي ننتجها من الحالة التشخيصية للأنا والآخر في الروايتين معا، تجعل الوعي بهذه الثنائية وعي  بمفهوم المصلحة والحاجة.
3-2 في نص "مراتيج" ، تطلب الأنا الآخر – الفرنسي من أجل الوعي بخلل الذات وطبيعة الذهنية العربية التي لا تتفاعل مع  مشروع التغيير ، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وفي نص " مسك الغزال" يطلب الرجل العربي جسد المرأة الأجنبية – الأمريكية ( الآخر ) ليحقق من خلالها ما يفتقده في حالته العربية.
3-3 في "نص مسك الغزال"، تقبل الأمريكية الرجل العربي فقط لكونها تحظى بقيمة كبيرة تجعلها تعيش التفرد والاستثناء.
3-4 في نص " مراتيج "  تصطدم الذات بسؤال ثقل الماضي/ الذاكرة، ولن يستقيم توازنها النفسي إلا بالدخول في حوار مع الذات والذاكرة.
3-5 الذات العربية( معاذ في مسك الغزال) تكشف عن تناقضاتها أمام الآخر الأجنبي.
3-6 تنتقل العلاقة بين الذات والأخر(سوزان/ معاذ)  من علاقة انجذاب إلى علاقة سخرية بعد الوقوف عند سذاجة الرجل العربي، وتخلف ثقافته المعرفية بالمفاهيم.
 إذا كانت العلاقة بين الذات العربية والآخر الأجنبي قد تمظهرت تحت هذه المواصفات في مراتيج ومسك الغزال، فإننا نسجل أفقا مشتركا وحد نهاية النصين، وهو الإيمان بأن التحرر من ذاكرة الثقافة التي تعيق انطلاق الذات نحو الوعي الإيجابي لن يتحقق عبر الآخر الأجنبي(فرنسا/ أمريكا)، ولكنه تحرر تقوم به الذات نفسها من خلال مواجهتها لترسبات الذاكرة والماضي.

تم التحديث فى ( الأربعاء, 18 أبريل 2012 08:25 )